إشراقة 

رجلٌ واحدٌ قد يكون رجلَيْن لدى شخصَيْن أو أكثر

 

 

 

 

 

     عَلَّمتني الحياة أنّ رجلاً واحدًا قد يجوز أن يكون رجلين مختلفًا أحدُهما عن الآخر لدى شخصين أو أكثر. فمثلاً هذا الشخصُ جَرَّبَ رجلاً غايةً في الصلاح والخلق والإلف والمواساة والصدق والوفاء بالوعد وإحسان المعاملة؛ وجَرَّبَه شخصٌ آخر على عكس ذلك كله أو بعضه؛ فالأوّل يُؤَكِّد ويقسم أنّه رجلٌ أيُّ رجل، والثاني يُؤَكِّد ويحلف ويقول بقوة أكثر وثقة أكبر: إنّه رجل فاسد لغاية لا تُوصَفُ .

     وذلك يرجع إلى أشياء كثيرة قد يَصْعُب تعدادُها وتحديدها. منها أن الشخص الأوّل مثلاً وَجَدَه في حالة معتدلة أو حالة طبيعيّة ، وفيها تَعَامَل معه وفيها جَرَّبه في الحاجة التي احتاج إليه في تحقيقها؛ فتأكّد لديه أنه رجل إيجابيّ، طيِّب في المعاملة، مُتَجَاوب في التعاون مع الغير على ما يطلبه منه فيه. أمّا الثاني فإنّه كَلَّفَه تقديمَ التعاون على ما يحتاج إليه وهو يُعَانِي حالةً غير عاديّة : حالةَ غضَب، حالةَ مرض، حالةَ تَعَجُّل، حالةَ تَحَطُّم داخليّ تحت ضغط من أنواع الأشغال والمسؤوليّات المتراكمة؛ فلم يتكّن من إحسان التعامل معه، فعاد يحمل عنه انطباعًا سلبيًّا بأنّه رجل غير طيّب، وأنّه أنانيّ، وأنّه عارٍ من الإنسانيّة وعمّا يجب أن يتحلّى به المسلم من الأخلاق التي تضع الفاصلَ بينه وبين غيره من أبناء الديانات الباطلة .

     ومنها أن الإنسان قد يتَسَرَّع في الحكم على من يُتَاح له أن يتعامل معه . وموقفُ التَّسَرُّع موقفٌ غيرُ لائق؛ لأنّه يؤدّي إلى الإرباك والتعقيد وكثيرٍ من المشاكل التي تعود وبالاً على المُتَسَرِّع وعلى من عَامَلَه بالتَّسَرُّع كليهما. يجب أن لايتَّخذ الإنسان رأيًا أو قرارًا نحو إنسان إلاّ بعد تجارب مُتَأَنِّيَة؛ فلا يحكم له بأنّه طيّب إلاّ بعد معايشته طويلاً، ولايحكم عليه بأنّه غيرُ طيّب إلاّ بعد أن يعامله طويلاً؛ ومن هنا أَجْمَعَ الصحابةُ والتابعون والعلماءُ الصالحون أن لايَحْكُمَ أحدٌ لإنسان أو عليه إلاّ بعدما يُجَرِّبه في السفر، ولدى البليّة، وعند المشاكل؛ حتى يَعْجُمَ عودَه، ويقول بعد التأكّد من أَحَد جانِبَيْه : الخير والشرِّ: إنّه طيِّب أو غير طيِّب .

     ولكنّه لايغِيبَنَّ عن البال أنّ الرجل الطيِّب هو الآخر قد لايُحْسِن التعاملَ مع البعض بينما يُحْسِنُه مع مُعْظَم الناس؛ لأنّ الإنسان يصدر في أعماله عن مُعْطَيَات الظروف والأحوال؛ فيجوز أن يبدو طيِّبًا ليِّنَ الجانب عذبَ الأخلاق لرجل، ويبدو غيرَ ذلك لآخر؛ لأنه لدى التعامل مع الأوّل كان صادرًا عن السرور الغامر الذي لَقِيَه بفوز ابنه في امتحان الجامعة لسنة الشهادة؛ أو بانتصار الفريق الذي يحبّه في المباراة العالمية لكرة القدم؛ أو بكسبه الأرباحَ السنويةَ غيرَ العاديّة في تجارة الأقمشة التي يُمَارِسُها كمصدر للرزق؛ أو بتحقق غرض من الأغراض الكثيرة التي كانت عزيزة لديه وحبيبة إليه؛ فكان باسمَ القلبِ والوجهِ، مُتَفَتِّحَ النفسِ والصدرِ؛ فكان مُتَهَيِّئًا داخليًّا للإحسان إلى كل من يبادر إليه بمعاملة؛ فصَنَعَ ما كان مُنْتَظَرًا منه .

     أما لدى التعامل مع الثاني، فكان مدفوعًا بعوامل سلبيّة ضاغطة ضغطا عاليًا؛ حيث نال فريقُه المُحبَّب الذي ينتصر له هزيمةً لقاءَ فريق يكرهه دائمًا؛ أو مات قريبٌ من أقربائه كان يحبّه حبَّه لنفسه، أو اشتدَّ مرضُه هو منذ الليلة اشتدادًا غَيَّر طبيعتَه وأثَّرَ على قواه الفكريّة والجسميّة؛ فعاد كئيبَ النفسِ كسيرَ البالِ، لا تَسُرُّه البيئةُ، ولايُعْجِبُه ماحولَه من المناظر الخلاّبة التي كانت تهزّه من قبل؛ أو أَخْفَقَ في تحقيق المكاسب التي كانت تهمّه؛ أو تَطَوَّرَت مشكلاتٌ فرديّة أو جماعيّة تمسّه من قريب أو بعيد؛ أو كان الشخص الذي أَحْسَنَ معه التعاملَ ذا أهميّة كبيرة لديه أو قيمة مرتفعة في المجتمع. والشخصُ الثاني الذي لم يُحْسِن التعاملَ معه كان رجلاً عاديًّا لاغناءَ له فيه ولاقيمةَ له عنده وعند المجتمع؛ فالإحسانُ الذي مارسه صَدَرَ عن الشعور بالقيمة، وعدمُ الإحسان الذي صدر منه، صَدَرَ عن الشعور بعدم الأهميّة .

*  *  *

     هناك مكتبةٌ بدهلي تجاريّةٌ تَتَولَّى إصدارَ وتوزيعَ الكتب داخليًّا وخارجيًّا. واشْتَهَرَتْ بإجادة الطبع والإخراج حسبَ المواصفات العالميّة؛ فكثيرٌ من المُؤَلِّفِين والكُتَّاب يُسْنِدون إليها مسؤوليّةَ طبع وتوزيع مُؤَلَّفاتهم، تخلِّيًا عن التعقيدات التي لاتخلو منها عمليّةُ الطبع والتوزيع التي لايُجِيدُها إلاَّ من اختمرت تجربتُه في هذا المجال. ذات مرة حصل لي مع صاحبها لقاءٌ في مكتبه بمقر المكتبة لاستلام هديّة كانت مُوْدَعَةً لي لديه من قبل أحد أحبّائي. وعندما تَعَرَّفَ عليَّ أبدى سرورَه وإعجابَه بي بما سمع عنّى على ألسنة كثير من الإخوان المُتَرَدِّدين عليه من «ديوبند» للتعامل معه في شؤون الطبع والإصدار. ذلك لأن «ديوبند» أصبحت – بفضل جامعتها الإسلامية الأهلية الكبيرة الشهيرة بـ«دارالعلوم/ ديوبند» – أكبر مركز للاتّجار بالكتب الإسلامية في شبه القارة الهنديّة كله . وبعد ما تَمَّ تَعَرُّفُه عليَّ قال: سمعنا أن مُؤَلَّفَاتكم مُتَدَاوَلَة ومُتَلَقَّاة بالقبول في الأوساط العلمية الدينيّة، ونحن حريصون جدًّا – كما تعلمون – على إصدار مؤلفات أمثالكم؛ فحبّذا لو سَمَحْتُم لنا بإصدار بعض مُؤَلَّفَاتكم من مكتبتنا ولو لطبعة واحدة. قلت: ليست لديَّ المُؤَلَّفات كثيرةً؛ لأني لا أجد فرصة للتأليف والكتابة لأشغال تدريسية وصحافية واجبة، فمُؤَلَّفاتي قليلة ومعظمُها ذاتُ طبيعة دراسيّة، وقد خَصَّصْتُها للإصدار عن مكتبتنا الصغيرة: «مؤسسة العلم والأدب» ولكن قد أَسْمَحُ لكم بإصدار طبعة واحدة لكتابي «الصحابة ومكانتُهم في الإسلام» بالأرديّة؛ لأنّه كتابٌ غيرُ دراسيّ، يحمل طبيعة أكاديميّة علميّة، يرغب في دراسته الخواصّ و العوامُّ معًا. والكتابُ يتناول موضوعًا مباركاً سيَسْعَدُ به القارئ والمُؤَلِّف والناشر والمُوَزِّع وكلُّ من يساهم أوسَاهَمَ فيه بنصيب؛ فرضي بإصداره وأبدى سرورَه البالغ برضاي بدفع أحد مُؤَلَّفاتي إليه ليسعد بإصداره وتوزيعه هو ومكتبته، قائلاً: لقد أحسنتم إلينا كثيرًا ولن أنسى مَبَرَّتَكم هذه، ولاسيّما لأنكم رفضتم أن تقبلوا منّا أيَّ مكافأةٍ ماليّةٍ ندفعها إلى كل مُؤَلِّف نقوم بإصدار كتاب له، حسب قيمة الكتاب في الأسواق وأهميته في الأوساط الثقافية. ولكني اشترطتُ عليه أن يلتزم بإصدار كتابي في ورق جيّد، وتجليد متين جميل، وأن يأتي إخراجه ممتازًا من جميع الوجوه، وأن لايستغرق عمليةُ الإصدار أكثرَ من شهرين على الأكثر. وكتبتُ هذه الشروط كلَّها وغيرَها في ورقة؛ حتى تكون مُذَكِّرَةً له بها؛ فلا يكون لديه مساغ للتهاون بها .

     عندما مضت المدة التي كنتُ قد حدَّدْتُها لإصدار الكتاب، هاتفتُه لأعلم: هل تم إصدارُه، وهل شَحَنَ لي منه خمسين نسخة كانت كلَّ ما طلبتُه منه من «الفائدة» التي كان لي أن أجنيها فيما إذا أصدرتُه أنا بنفسي. فقال: نعم انتهى الطبعُ والآن يجري تجليدُه، وبعد عشرة أيّام، سيكون نصيبُكم من الكتاب موجودًا لديكم. ونسيتُ في زحمة الأشغال أن اتّصل به بعد مضيّ العشرة أيام، فاتصلتُ به هاتفيًّا بعد نحو شهر ونصف. فقال:نعم، لم يبق إلاّ بعضُ اللمسات الأخيرة في شأن التجليد، وسيكون النسخ الخمسون موصولةً عندكم بعد أيّام. وانصرفتُ إلى أعمالي، ثم حانت إجازةُ عيد الأضحى، وانقطعتُ إلى الاستعداد له، ثم الاحتفال به، والاحتفاءِ بالأقارب والضيوف الذين يتزاورون في أمثال هذه المناسبات السعيدة، وإنهاءِ بعض الأعمال الكتابية وغيرها التي كنتُ قد أَجَّلْتُها لأيام الفرصة، ثم هَجَمَ علينا أيامُ العمل الرتيب والقيام بالمسؤوليات من التدريس وإدارة مجلة «الداعي» وما إلى ذلك من الأشغال التي لاتَدَعُني لأَلْتَقِطَ أنفاسي، حتى مضت بعد اتصالي الأخير بصاحبي أربعةُ شهور، ولم تصلني الخمسون نسخةً من الكتاب، وكنتُ قد نسيتُ أمرَ الكتاب. وعند ما تذكّرتُ بعد مضيّ أربعة شهور، هاتفتُه، فقال: لم يبقَ من الكتاب إلاّ طباعةُ غلافه. قلتُ له: ولدى اتصالي بكم من ذي قبل مرتين أفدتموني بأن عمليّة التجليد تمرّ باللمسات الأخيرة. قال: إنّ المُوَظَّفِين المَعْنِيِّيين ربما كانوا قد أفادوني بذلك خطأً !.

     وهكذا أجريتُ به الاتّصالَ رابعًا وخامسًا وسادسًا وسابعًا، وظلّ يسلّيني بتعليلات، حتى انتهى نحوُ عام؛ فاضْطُرِرْتُ أن أستشفع لديه صاحبَ إحدى المكتبات التجاريّة في «ديوبند» الذي بينه وبينه علاقة تجارية وطيدة، فتمّ إصدارُ الكتاب بعد عام ونحو نصف. ولم يكتفِ الرجل بإخلاف الوعد بالنسبة إلى الميعاد الذي كان قد حدَّدَه لإصدار الكتاب، وإنما نَقَضَ الميثاقَ نقضًا كاملاً في شأن جودة الورق، وحسن الإخراج، وتصحيح الأخطاء المطبعية، التي كانت تسرّبت إلى الكتاب لدى الطبعة الأولى؛ فلم يلتزم بأيّ بند من بنود الاتفاقية التي جرى إبرامُها.

     ورَحِمْتُ الرجلَ، فلم أَلُمْه، وإنما رَثَيْتُ حظّي الذي عَثَرَ بالنسبة إلى دفع الكتاب إليه على طلب منه ليُصْدِرَه بطباعة أنيقة، وفي ورق ممتاز، وبتجليد فاخر. وكان المُفْتَرَض أن يأتي الكتاب جميلاً من جميع الوجوه وفي الميعاد الذي حَدَّدَه، ولاسيّما لأن صاحب المكتبة معروفٌ بإحسان طباعة الكتب، وله في هذا الشأن سمعة طيبة وذكر جميل واعتبار مُسَجَّل. فما حَدَثَ معي من قبله لا أَجِدُ له تفسيرًا إلاّ أن جَدِّي هو الذي عَثَرَ، ولم يوافقني التوفيقُ الإلهيُّ الذي بدونه لا يتحقّق غرض نبيل .

*  *  *

     في دهلي نفسها اتَّفَقْتُ مع مُثَقَّف نبيل، أن يَتَوَسَّط لإنهاء حاجة لي إلى شخص كانت بينه وبينه علاقةُ ودّ وتعامل قديمة متينة. قال: سأحاول جهدي أن يُنْهِيَها لك في أقرب وقت ممكن وبأحسن ما يُرَام؛ ولكن اعْلَمَنَّ أن رجلاً – أيًّا كان – يتعامل مع كل أحد حسب ما يرتئيه هو في ضوء كثير من الاعتبارات التي ربّما يهتمّ ببعضها ولايهتمّ ببعضها الآخر؛ فلا يجوز لك ولا لي ولا لأحد غيرنا أن يعتقد أن شخصًا ما يُعَامِل مع الكل بشكل مُتَسَاوٍ؛ فقد يجوز أن يتعامل معك بأحسن ما يكون وفي أقرب مايكون، ويتعامل معي بأسوأ ما يكون وفي أبعد ما يكون، ويتعامل مع الثالث بما يجوز أن يُصَنَّفَ ضمن مايكون بين الأحسن والأسوأ وما يكون من الوقت بين الأقرب والأبعد .

     بما أنّ الرجل الذي اتّفقتُ معه للتوسّط، كان مُثَقَّفًا وشريفًا، فأشار – قبل أن أَدْخُل معه في معاملةٍ تكون عاقبتُها فاشلةً أو ناجحةً – إلى أمر مَبْدَئِيٍّ لايندم ولا يَتَأَسَّف من يستحضره في ذهنه ويأخذ به في مشوار حياته. ورغم ذلك ما سحبتُ رأيي في شأن تكليفه أن يكون وسيطاً في تحقيق الحاجة التي مَسَّت بي إلى الشخص المذكور الذي كان بينه وبينه سابقُ تعارفٍ وتعاملٍ . فرضي – جزاه الله خيرًا – بأن يكون معاونًا لي على تحقيقها؛ ولكنّه حَدَثَ تمامًا ما أشار إليه من قبلُ؛ حيث أَفْسَدَ الشخصُ المشارُ إليه حاجتي من حيث أَرَادَ أن يُحَقِّقَها لي، وكذلك اضْطُرِرْتُ أن أَتَأَذّى بطول الانتظار وضياع الوقت، على حين إن الشخص الذي احْتَجْتُ إليه، كان هو الآخر نبيلاً طيِّبَ المعاملةِ لطيفَ المعشر، كما أفادني كثير من الإخوان الذين حَقَّقَ لهم مثلَ الحاجة التي مَسَّت بي إليه .

     ولا يمكن أن يُفَسَّر مثلُ هذا الأمر إلاّ بأمرين أساسيَّين:

     (الف) سعادةُ جدِّ من أُحْسِنَ معه التعاملُ، وشقاءُ حظِّ من لم يُحْسَنْ معه التعاملُ.

     (ب) خضوعُ الشخص المحتاج إليه لاعتبارات مختلفة يكون مضطرًّا للخضوع لها طبيعيًّا أو خُلقيًّا أو اجتماعيًّا.

     التفسيرُ الأوّلُ يجعل المرأَ لا يُوَجِّه الملامَ إلى أحد، وإنما يَكِل الأمرَ إلى الله وحكمته ومشيئته، وأنه تعالى ماشاء كان وما لم يشأ لم يكن.

     والتفسيرُ الثاني يتيح الفرصة لتوجيه الملام إلى من كان مُكَلَّفًا العملَ؛ لأنه يثير شكاًّ لدى المُكَلِّف في أنّ المُكَلَّف قَصَّرَ في الأداء، وأنّ نيّتَه للعمل لم تَصِحَّ وعزيمتَه لم تَصْدُقْ، ولو صَحَّتْ هذه وصَدَقَتْ هذه لما حَدَثَ ما حَدَثَ من فساد العمل، وطول الأجل، وخيبة الأمل .

*  *  *

     تعلّمتُ من أساتذة كثيرين، كلُّهم كانوا كرماء وإن كان يفوق بعضُهم بعضًا في التعمق في العلم، والإتقان للأداء، والغزارة في العطاء، والبراعة في عرض الموادّ على الطلاب والتمكّن من الموادّ التي كانوا يُدَرِّسونها، وما إلى ذلك من الأمور التي تجعل المدرسين يُصَنَّفُون ضمنَ المُؤَهَّلين تأهيلاً فائقًا أو مُتَوَسِّطاً أو من الدرجة الثالثة أو مما بعدها؛ ولكنهم كانوا يختلفون في الشمول والجامعيّة، والقدرة على تلقين الموادّ عذبةً سائغةً سهلةً جدًّا للطلاب. وكان أحدُهم في المرحلة الجامعية أبذَّهُم في جميع المُؤَهِّلات المُنْتَظَرة من المُعَلِّمين الفائقين بالدرجة الممتازة. فكان حُبِّي له موفورًا، وإعجابي به لا حَدَّ له، وثنائي عليه لا نهاية له، واستفادتي منه بشكل لا أكاد أصفه، وحَلَّ من قلبي محلاًّ لم يَحُلَّه أحد من أساتذتي الكرام، لأنّه قَلَّبَ حياتي ظهرًا لبطن من حيث لم أشعر؛ ولأنه جَعَلَني أَعْشَقُ المادة التي كان يُدَرِّسها عشقا تَمَلَّك قلبي، وتغلّب على شعوري، وسَيْطَرَ على كلّ ما كان لديّ من رصيد للحبّ لأيّ من الموادّ – رغم قيمتها وغنائها جميعًا – التي درستُها طَوَالَ المراحل الدراسية التي تجاوزتُها في شتى المدارس، حتى بلغتُ المرحلةَ الجامعيّةَ . وكان ذلك «معجزة» بين مؤهلاته العديدة التي كان يمتاز بها هي الأخرى. وكان مُعَلِّمًا حقًّا، حيث كان «مُلْهَمًا» ولايكون المُعَلِّم مُعَلِّمًا حتى يكون مُلْهَمًا، كما سمعت عن مشايخي الصلحاء المُتَعَمِّقين في علوم الكتاب والسنّة.  وكان يملك الأسلوبَ الساحرَ في الطرح والتلقين؛ فكان شامًّا بين جميع الأساتذة – بالجامعة التي كان أستاذًا بها – بالنسبة إلى هذه الأهليّة التي فيها يكون مُعْظَمُ المُعَلِّمين مُفْلِسِين رغم كونهم أغنياءَ في المعارف والدراسة .

     وظلتُ على الدرجة العليا من الاعجاب به وحبّه واعتباره صاحبَ أكبر منّة في حياتي، ولم تَهْبِط درجةُ الإعجاب لديّ رغم جميع الصعود والهبوط اللذين مَرَّتْ بهما حياتي، ورغم مواقف السرور والحزن التي عَاشَتْها – حياتي – كجميع بني آدم الذين تعيش حياتُهم مواقفَ كل من السرور والحزن؛ لأن ذلك من طبيعة الحياة، ومن سنة الله في الكون؛ ولكني وجدتُ عددًا من زملائي والطلاب والمتخرجين الذين سبقوني أو لحقوني في الدراسة في الجامعة المشار إليها التي كان – رحمه الله – أستاذًا بها، يتناولونه بالانتقاد والملام، ويُوَجِّهون إليه من التُّهم التي استغربتُها طبعًا ولا صَدَّقْتُها في حياته ولابعدها. وحَاوَلَ بعضُ زملائي وغير زملائي الذين تعلموا منه مثلى أن يُكَرِّهوه إليّ وأن يُرَسِّخوا في ذهني تفاهتَه وعدمَ قيمته وكونَه غيرَ جدير بالإعجاب والتقدير اللذين منحتُهما إيّاه، وأني ظننتُه على هذا المستوى الأرفع عندما كنتُ غِرًّا لم تختمر تجربتي للناس والحياة، وأنّه لابدّ أن آخذ أمورَ الحياة مأخذَ الجدّ وأن أُقَيِّمَها تقييمًا صحيحًا، وأن أراجع قراراتِ الإعجاب وعدم الإعجاب التي اتخدتُها في المرحلة المبكرة من عمري، فأعيد اتّخاذها، وأن أرى الأشياء كما هي، لا كما هي تبدو من بعيد!. هكذا لَقَّونني الدرسَ في الكراهية ونكران الجميل؛ ولكني لم أَعِه وكأَنِّي لم أسمعه.

     وهنا اعتقدتُ بل آمنتُ أن الرجل مهما كان مجمع الفضائل، لايُعْجَبُ به كلُّ من عَرَفَه، وجلس إليه، واستفاد منه، وتتلمذ عليه، وأكل من إنائه، وشرب من كأسه. وكأن شخصًا واحدًا يكتشفه اثنان أو أكثر اكتشافَيْن يختلف أحدهما عن الآخر كلَّ الاختلاف؛ فهذا عَرَفَه عملاقًا فريدًا نابغةً رجلاً ثَرَّ النفع لاتُلْحَقُ آثاره ولايُشَقُّ غباره في جهات نبوغه. وذاك «عَرَفَه» و «اكتشفه» أنه رجل عاديّ بل فاسد مُفْسِد، ضرُّه أكثر من نفعه، وأنه نَفَعِيّ وليس مُخْلِصًا كما يبدو للأغرار. وكأن الشخص المرئي بعيون الناس كالشيء المرئيّ بالمرآة أو المنظار. إذا كان المنظار أبيض صافيًا ناصعًا بدا الشيءُ المرئي به على ما هو عليه من الصفاء والنقاء. وإذا كان المنظار أسود فاحمًا بدا الشيء المرئي به على غيرما هو عليه. وكأن ذلك يرجع إلى الشقاء والسعادة؛ فالسعيد – الذي يرى الشيء بمنظار أبيض – يرى الشيء والشخص على حقيقته من الفضل والنبوغ والخير والنفع . والشقيّ – الذي يضع على عينيه منظارًا أسود – يرى الشخص نفسه على غير حقيقته، فيجده عاريًا من كل فضل ونبوغ وخير ونفع . وكأن السعيد يُؤَدِّيه سعادتُه إلى أن يكتشفه اكتشافًا صحيحًا، وأن ينتفع به ويبعث غيرَه على الاستفادة منه. والشقيّ يُؤَدِّيه شقاؤُه إلى أن يكتشفه اكتشافًا خاطئًا؛ فيمنع نفسه وغيره من الاستفادة منه، ويُوَظِّف نفسه للإساءة إليه، ورميه بالتهم، والتشهير به، وتنفير الناس منه؛ فيَحْرِم نفسَه وغيرَه الخيرَ الكثيرَ. كما أنه يأثم بإساءة الظن بالرجل وكان جديرًا بأن يُحْسَنَ به الظنُّ .

*  *  *

     سمعتُ على لسان الداعية والكاتب الإسلامي الكبير الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندويّ رحمه الله (1333-1420هـ = 1914-1999م) أكثر من مرة خلال حديثه المجلسي، قال: كنتُ مدعوًّا للمشاركة ببحث عن العلامة شبلي النعماني رحمه الله (1274-1332هـ = 1857-1914م) صاحب «السيرة النبوية» و«شعرالعجم» والكتب الكثيرة القيمة، في ندوة عُقِدَتْ عنه في الجامعة الملية الإسلامية بدهلي. وكنتُ عندئذ شابًّا في مُقْتَبَلِ العمر، وأُدَرِّس مادةَ التفسير والأدب في دارالعلوم ندوة العلماء. ولما انتهيتُ من تقديم بحثي وجلست في مكاني، نَهَضَ كاتبٌ وقَدَّمَ مقالتَه عنه رحمه الله، وكانت مملوءة بانتقادات لاذعة لشخصه، كانت تُهين قيمةَ الأعمال العلميّة والأدبيّة الفريدة – بكل معاني الكلمة – التي أَثرَىٰ بها المكتبةَ الأرديةَ الأدبيةَ والإسلاميّةَ، ودانت لها الأجيالُ وستظل تدين لها. وآلمني وكثيرًا من الحضور هذه الانتقاداتُ القاسيةُ المُوَجَّهَةُ لبَحَّاثَة وكاتب إسلاميّ كبير تَخَرَّجَتْ على كتاباته الكثرةُ الكاثرةُ من الكُتَّاب والباحثين؛ فاسْتَسْمَحْتُ مديرَ الندوة أن يتيح لي فرصةَ خمسَ دقائق لأقول قولي في شأن الانتقادات المُرَّةِ التي تَنَاوَلَ بها «الباحثُ» فلان هذا البحاثةَ المؤرخَ الكاتبَ الأديبَ الفارعَ القدم، فأَتَاحَها لي، فنهضتُ وقلتُ: استمعتُ بصبر قاسٍ إلى الانتقادات العنيفة التي وَجَّهه الدكتور فلان إلى العلاّمة شبلي النعماني رحمه الله. ولا يَسَعُنِي تجاهها إلاّ أن أقول: إنّ سعادة الجدّ جعلت القطاعَ العريض من الباحثين والكُتَّاب والدارسين أن يروا في العلاّمة شبلي النعماني مُؤَلِّفَ أكبر موسوعة باللغة الأردية في السيرة النبوية، وكتاب «شعر العجم» و «الفاروق» و«الغزالي» و«انتقادات على جرجي زيدان» والأبحاث الكثيرة الدّسِمَة الغنية في الأدب والشعر والنقد والتأريخ، ويروا فيه صاحبَ أكبر منّة في عنق الأدباء المترسلين والكتاب البارعين الذين يُحَاكُونَ أسلوبَه وينهجون منهجَه. وإن شقاءَ الحظّ جعل بعضَ «الدارسين» ومنهم الدكتور فلان الذي قَدَّمَ انتقاداتِه نحو العلاّمة أن يَرَوْا فيه كاتبًا اعتزاليًّا، ومُتَبَادِلاً للرسائل الغراميّة مع سيدة خيالية، وباحثًا غير مستقيم العقيدة، وعالمًا كان ضعيفًا في العمل، وأديبًا لم يكن جديرًا بالمحاكاة؛ حيث كان – كما يزعمون – عالي الكعب في الأدب والكتابة والأسلوب المُحْكَم المتين، ولم يكن عاليَ الكعب من ناحية العمل والفكر المستقيم . أيها الإخوة ! ومن يقرأ كتبَ وتراثَ العلامة الضخم لايرى فيها شيئًا يُزْرِي به وَيَدلُّ على ما وَجَّهَ إليه الدكتور فلان من الانتقاد والملام، وإنما يزداد إيمانًا بأنّه كان مجاهدًا بقلمه في سبيل دينه، مدافعًا عنه بهذه المقدرة الكتابية والنظرة التأريخية المتعمقة المتوسعة الواعية عن الإسلام، وشارحًا لتعاليمه إلى جانب ما أَثرَىٰ به المكتبةَ الأدبيةَ اللسانيةَ من المؤلفات والأبحاث التي يتطفّل عليها أمثالُ الدكتور فلان رغمًا منهم؛ فالعلامة شبلي النعماني اكتشفنا فيه أديبًا إسلاميًّا، مؤرخًا إسلاميًّا، بحاثة إسلاميًّا، ناقدًا إسلاميًّا، ومن هذه الناحية ندين له ولانعرفه إلاّ على أنه ناصع البياض لاتُكَدِّرُ صفوَه كدورةٌ. وذلك يرجع إلى سعادتنا؛ حيث اكتشفناه اكتشافًا إيجابيًّا . أمّا شبلي النعماني الذي طَلَعَ به علينا الدكتور فلان، فلا نعرفه نحن، وما لقيناه قط، ولم نَرَه في مجلس، ولم نَطَّلعْ عليه في مكتبة، ولم تَدُلَّنا عليه ثنايا الكتب، وما أشار إليه أيٌّ من أساتذتنا ومشايخنا ولهم بَصَرٌ بالرّجال. (انتهى ترجمة ما سمعتُه بالأردية على لسان الشيخ الندوي رحمه الله) .

*  *  *

     ومن أمثال التسرّع في الحكم في هذا الباب، ما جَرَّبتُه كثيرًا مع طُلاَّب كثيرين يرتادون – أو ارتادوا – مجلسي بعد صلاة العصر حتى المغرب؛ فكثيرًا ما حَدَثَ أنّ طالبًا أو طُلاَّبًا غَشُوا مجلسي هذا الذي يجري فيه الحديث عفوَ الساعة وفيضَ الخاطر، وربّما يتطرّق إلى نواحٍ كثيرة ومواضيعَ عديدةٍ ويتشعَّب ويتفرَّع؛ لأن ذلك هو طبيعة الأحاديث المجلسيّة التي لاتتقيّد بموضوع ولاتنحصر في مادة مُعَيَّنة؛ لأنّها كالنُّزْهَة، يخرج صاحبها إلى حيث يشاء – دونما إعمال قصد – من الجهات والأمكنة الخالية، والشوارع الواسعة، والمزارع الخضراء، والمنتزهات النضراء؛ فربّما يتحدّث الإنسان عن الدين إذ يتطرّق إلى الحديث عن الدنيا، وبينما يتحدّث عن السماء إذ يتطرّق إلى الحديث عن الأرض، وهكذا .

     فربما اتّفق أني خلال الحديث عن موضوع من الموضوعات الأدبية، تطرّقتُ إلى الاستشهاد ببيت من أبيات الغزل – مثلاً – لشاعر أرديّ مثل الميرزا أسدالله خان الملقب بـ«غالب» (1212-1285هـ = 1797-1869م) أو الحكيم مومن خان «مومن» (1215-1268هـ = 1800-1852م) أو الميرزا خان «داغ» الدهلوي (1246-1322هـ = 1831-1905م) أو غيره وتناولتُه بالشرح والإيضاح، واتّفق أن حَضَرَ مجلسي طلابٌ لا يحضرونه إلاّ قليلاً أو مرة واحدة فقط خلال دراستهم بالجامعة – دارالعلوم/ ديوبند. وهي أكبر جامعة إسلامية أهلية وأعرق الجامعات الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهندية – فلم يعرفوني كثيرًا ولم يعرفوا طبيعتي وهوايتي ومفتاح شخصيتي وما أُحِبُّه وما لا أُحِبُّه؛ فعادوا من مجلسي بعد انتهائه لدى أذان المغرب يحملون عنّي انطباعًا – مثلاً – بأني رجلٌ أُحِبُّ ممارسةَ عمليّةِ تبادلِ الغَرَام، وأنّي خارجٌ على عادة العلماء المُلْتَزِمِينَ؛ لأنّهم وَجَدُوني قَرَأْتُ في تَذَوُّقٍ بيتًا غزليًّا لشاعرٍ طليقٍ مثلِ «غالب» أو «مؤمن» أو «داغ» أو غيره، ثم تناولتُه في لذّةٍ بالشرح والإيضاح وكأني لاعبٌ بارع في مجال الغَرَام والحبّ الحرّ ! وبَقِيَ الانطباعُ راسخًا في أذهانهم عبر حياتهم، حتى صار رأيًا لهم عنيّ بأنيّ لستُ كعامّة العلماء وعامّة أساتذة الجامعة ولستُ مُلْتَزِمًا بمسارهم في الالتزام بآداب الدين والاحتراز عن إنشاد الأبيات الغزليّة الخليعة التي لاينبغي – كما ظنّوا ويظن كثيرٌ أمثالهم من جماهير المسلمين – أن يتلطّخ ألسنةُ علماءِ الدين بإنشادها، فضلاً عن دراستها وتفهّمها! .

     وعلى عكس ذلك حَدَثَ أنّ طُلاَّبًا أو ضيوفًا حَضَرُوا ملجسي ممن لايحضرونه إلاّ مصادفةً، فقد لايحضرونه إلاّ مرةً واحدةً في العمر؛ فكانوا ممن لايعرفونني عن كثب وتجربة، وإنما عَرَفُوني معرفةً خاطفةً خلال هذه الجلسة الواحدة في مجلسي الواحد. واتّفق أني تحدثت في ذاك المجلس الذي حضروه عن الشيخ الكبير والمربي الحكيم أشرف علي التهانوي رحمه الله (1280-1362هـ = 1863-1943م) المعروف بشبه القارة الهندية بـ«حكيم الأمة» وأسلوبه في التزكية والتربية، ومنهجه في الإحسان وفن التصوّف، وطريقته في تخريج الدعاة والصالحين، وبناء الرجال والمصلحين؛ فانطبع بأذهانهم بأني أحد رجالات التزكية والإحسان والتصوّف، وأني زاهد تقيّ نقيّ توّاب أوّاب إلى الله. وبقي الانطباع في أذهانهم عبر حياتهم؛ لأنهم عرفوني هكذا فَعَرَّفوا بي بين الناس بهذه الصفات الجميلة، وكأنهم يروون حقيقةً ثابتةً لاتقبل نقاشًا .

     وهذان الانطبان: السلبيّان والإيجابيّان، يدلاّن على الانطباعات الأخرى الكثيرة التي يكون كثير من حضور مجلسي انترعوها عنّي من خلال استماعهم لحديث من الأحاديث العفويّة التي تجري في مجلسي ذاك. وربّما انفضّوا من المجلس بحيث لم يعودوا إليه بعدُ؛ فبقيت تلك الانطباعات المختلفة في أذهان الحضور المختلفين، تعمل عملَها السلبيّ أو الإيجابيّ، وهي التي أَمْلَتْ عليهم أراءً عنّي مختلفةً، أنا من كثير منها بَراءُ براءةَ الذئب من دم ابن يعقوب – عليهما السلام –.

     فالتسرّع في اتخاذ رأي في شخص ما دونما تجربة كافية، ومعرفة شافية، ودراسة مقنعة لأحواله وآثاره، وأعماله وأقواله، وطبيعته في الكره والرضا، لايجوز. إنّه ذنب من الذنوب يجب أن نحترز منه؛ لأنه يؤدّي إلى إساءة الظن بأحد دونما ذنب منه وإلى إحسان الظن بأحد دونما دليل عليه. وإحسانُ الظن تصرّفٌ محمود في مكانه؛ ولكن المبالغة فيه قد تخدع المتعاملين معه، وتُوقِعُه في مشكلات لم يكن ليَقَعَ فيها لولا ما سَمِعَه من أحد من الثناء عليه والمَدَحِ له.

 

(تحريرًا في الساعة :3011 من ضحى يوم الأحد:يوم السبتاللائقَ والتقديرَ الذي يستحقّه، وأن تدعو ربّك أن يديمه على ما هو عليه ما تطول به الحياة. ينتمي إليه؛ فلا بدّ أن تمنحه 9/شعبان 1427هـ = 3/ سبتمبر 2006م)

أبو أسامة نور

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1427هـ = ديسمبر 2006م ، العـدد : 11 ، السنـة : 30.